أرسل لصديق:
shafaa.doc
(لحفظ هذا الملف من فضلك اضغط على الزر الأيمن للماوس واختر حفظ بأسم)
الشفاعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الله به الغمة ، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصلى اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين...
أما بعـد:-
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وذكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور.
طبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا.
حياكم الله جميعاً وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنى وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير..
أما بعـد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتى فى اللـه:
هذا هو لقاءنا الحادى عشر مع السلسلة الكريمة فى رحاب الدار الآخرة وكنا قد وقفنا عند هذا المشهد المزلزل المروع: الناس جميعاً وهم فى أرض المحشر، وقد بلغ بهم ما بلغ من الهول والغم والكرب، فالزحام حينذاك يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرؤوس بمقدار ميل، والناس غرقى فى عرقهم كل بحسب عمله وبحسب قربه من الملك القدير ويزيد المشهد الرهيب العصيف غماً فوق الغم وكرباً فوق الكرب بإتيان جهنم والعياذ باللـه.
فقد سجل المولى فى قرآنه قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [ الفجر: 23 - 26 ].
وفى صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه قال:
((يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها))([1]).
فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب اللـه.
فحينئذ تجثوا جميع الأمم على الركب..
ولقد سجل القرآن هذا المشهد حيث قال اللـه تعالى:
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].
وفى هذه اللحظة تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة، وتطير قلوب المجرمين فزعاً، وهلعاً، وهرباً من النار، ويعض صنف كثير من الناس فى أرض المحشر على أنامله تحسراً على ما قدم فى هذه الحياة الدنيا -ولكن- هيهات. . هيهات!!
قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ للإِنْسَانِ خَذُولا [الفرقان:26-29].
فى هذا الكرب ينطلق بعض الناس ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟!! ألا ترون ما قد بلغنا ؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ليقضى بينكم ؟!!
فلا يتقدم للشفاعة يومئذ إلا صاحبها. سيد ولد آدم محمد بن عبد اللـه وحينها يقول كل نبى نفسى. . نفسى!! ويقول حبيبنا محمد أنا لها، أنا لها.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا فى هذا الموضوع فى العناصر الآتية :-
أولاً: الشفاعة العظمى.
ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى .
فأعرنى قلبك، وسمعك أيها الحبيب، و اللـه أسأل أن يجعلنى وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أولاً: الشفاعة العظمى
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) ثم قال: ((هل تدرون مم ذاك؟!! يجمع اللـه الأولين والأخرين فى صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعى وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس ألا ترون ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم. فيأتونه فيقولون ياآدم أنت أبو البشر خلقك اللـه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيت، نفسى، نفسى، نفسى... اذهبوا إلى غيرى. اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يانوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللـه عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا عند ربك؟ فيقول: إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كان لى دعوة دعوت بها على قومى، نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى إبراهيم… فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبى اللـه، وخليله فى أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى. فيقولون: أنت رسول اللـه، فضلك برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنى قد قتلت نفساً لم أُومر بقتلها، نفسى، نفسى، نفسى اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول اللـه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس فى المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسى، نفسى، نفسى. اذهبوا إلى غيرى، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً وفى رواية: فيأتونى - فيقولون: يامحمد أنت رسول اللـه وخاتم الأنبياء قد غفر اللـه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فانطلق، فآتى تحت العرش، فأقع ساجداً لربى، ثم يفتح اللـه علىّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال: يامحمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفــع تُشفّــع فأرفع رأسى، فأقول: ياربى أمتي))([2]).
فتعال معى أخى الحبيب نعيش مع بعض فقرات الحديث سريعاً:
لقد بلغ من الناس ما بلغ بهم من شمس تدنوا فــوق الرؤوس بمقــدار الميل، هم وكرب وغم مالا يطيقون ولا يتحملون.
فلما بلغ بهم الحال لهذا الحد العصيب الرهيب بلغ بهم المقال، فقال بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا ؟. فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم. فيأتون آدم عليه السلام فيقول آدم عليه السلام: نفسى، نفسى، نفسى اذهبوا إلى غيرى..!! اللـهم سلم سلم يا أرحم الراحمين. فيأتون نوح عليه السلام. ذلكم العملاق الذى ظل يدعو إلى اللـه ألف سنة إلا خمسين عاما، ذلكم النبى الكريم الذى دعى قومه فى السر والعلن فى الليل والنهار فلم يستجيبوا إلا من رحم اللـه.
قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:5-9]
ما ترك هذا النبى الكريم العملاق سبيلاً إلا وسلكه، ألف سنة إلا خمسين عاماً لم ينم، ولم يهدأ، ولم يقر له قرار، ومع ذلك يقول نبى اللـه نوح: نفسى، نفسى، نفسى... اذهبوا إلى غيرى..
ولقد دعى نبى اللـه نوح دعوته، فلكل نبى دعوة مستجابة، كل نبى تعجل بهذه الدعوة فى الدنيا إلا المصطفى كما فى صحيح مسلم ((لكل نبى دعوة مجابة، وكل نبى قد تعجــل دعــوته، وإنــى اختبأت دعوتى شفــاعة لأمتي يــوم القيامة))([3]).
نوح دعى على قومه كما سجل القرآن، فقال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27].
فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقول خليل اللـه: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثلــه ولـن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذبــاته ثم يقول نفسى، نفسى، نفسى، اذهبوا إلى غيرى!!!
أتعرف ما هي كذبات إبراهيم؟!! كذباته!!.. وهل كذب إبراهيم؟!!
الجواب من صحيح البخارى من حديث أبى هريرة قال: لم يكـذب إبراهيـم قـط إلا ثـلاث كذبـات ثنتيـن فـى ذات اللـه، قوله : إِنَّى سَقِيمُُ [الصافات:89] وقوله: بَل فَعَلَهُ كَبيرهُم هَذاَ [الأنبياء:63].
وواحدة فى شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار، ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتى يغلبنى عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختى، فإنك أختى فى الإسلام، فإنى لا أعلم فى الأرض مسلماً غيرى وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأتى بها، فقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي اللـه أن يطلق يدى ولا أضرك، ففعلت فعاد، فقُبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعى اللـه أن يطلق يدى، فلك اللـه أن لا أضرك ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذى جاء بها، فقال: إنك إنما جئتنى بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشى، فلما رآها إبراهيم انصرف، فقال لها: مَهْيم، قالت: خيراً، كف اللـه يد الفاجر وأخدَمَ خادماً، فقال أبو هريرة: فتلك أمكم يابنى ماء السماء([4]).
هذه كذبات إبراهيم التى ذكرها ثم قال: اذهبوا إلى غيرى... اذهبوا إلى موسى...!! إنه الكليم.. إنه المصطفى بالرسالة.. إنه المجتبى بالكــلام إنــه المصنوع علـــى عين اللـه. وَلِتصْنَعَ عَلَى عَينِى [طه:39].
اصطفاه اللـه برسالته على جميع الخلق واصطفاه بالكلام على جميع الخلق ومع ذلك يقول: نفسى.. نفسى.. نفسى!! اذهبوا إلى غيرى.. اذهبوا إلى عيسى.
سـبحـان اللـه!! حتـى الكليـم يقـول: اذهبـوا إلى غيرى اذهبـوا إلـى عيسـى!! فيأتون عيسى عليه السلام فيقول عيسى عليه السلام إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيرى نفسى، نفسى، نفسى، ولم يذكر عيسى عليه السلام ذنباً من الذنوب اذهبوا إلى محمد بن عبد اللـه .
يقول الحبيب فيأتونى فأقول: أنا لها، أنا لها.
يقول: فأقوم فأخر ساجداً لربى تحت العرش فينادي عليه الملك جل جلاله ويقـول يامحمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيقول الحبيب أمتي أمتي. . يا رب أمتي.
سبحان اللـه !! انظر كم حب الرسول لأمته !! إنه الحليم الأواه صاحب القلب الكبير صاحب القلب الرحيم الذى قال اللـه في حقه بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ .
قرأ يوماً قول اللـه فى إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ ابراهيم: 36 ]
وقرأ قول اللـه فى عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة: 118 ].
فبكى فأنزل اللـه إليه جبريل عليه السلام وقال: باجبريل سل محمد ما الذى يبكيك؟ - وهو أعلم-، فنزل جبريل وقال: ما يبكيك يا رسول اللـه؟ قال أمتي.. أمتي يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل. وقال: يبكى على أمته واللـه أعلم، فقال لجبريل: انزل إلى محمد وقل له إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك فيقول: يا رب أمتي.. يا رب أمتي.. يا رب أمتي.
وفى حديث الصور الطويل الذى رواه الطبرى والطبرانى والبيهقى وأبو يعلى الموصلى وأورده السيوطى واستشهد به ابن أبي العز الحنفى، وللأمانة العلمية التى عاهدنا اللـه عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ففيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال أهل الجرح والتعديل وفيه محمد بن زياد وهو مجهول. وفيه ما يتفق مع سياق حديث أبى هريرة الذى ذكرته آنفاً.
يقول المصطفى : ((فأخر ساجداً تحت العرش فيقال لى: ما شأنك؟ وهو أعلم)) فيقول المصطفى : ((يارب وعدتنى الشفاعة فشفعنى فى خلقك فأقضِ بينهم، فيقول اللـه جل وعلا قد شفعتك… أنا آتيكم لأقضي بينكم)).
يقول المصطفى ((فأرجع لأقف مع الناس في أرض المحشر)). وتنتظر البشرية كلها مجىء الملك جل جلاله مجيئا يليق بكماله وجلاله، فكل ما ورد ببالك فاللـه بخلاف ذلك لَيسَ كَمثلهِ شَىءٌ وَهُو السَّميعُ البَصِيرُ .
فصفة النزول، وصفة المجىء، وصفة الإتيان، وصفة الغضب، صفات لله جل جلاله نثبتها كما جاءت من غير تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].
قال علماؤنا: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذى أراد، وبالمعنى الذى قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال.
فلا العرش يحمله ولا الكرسى يسنده، بل العرش وحملته والكرسى وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
سأل رجل إسحاق بن راهويه وقال: يا إسحاق كيف تؤمنون بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا ؟! فقال: يا هذا إن كنت لا تؤمن به فإننا نؤمن بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه عرشه.
من كان منا يتصور أن النمل يتكلم، وما عرف ذلك وفهمه إلا يوم أن قرأ فى القرآن الكريم حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل-18].
من كان منا يتصور أن هناك شىء لا يمشى على رجليه وإنما يمشى على بطنه حتى رأيت الحية تمشى على بطنها وما شاكلها وهكذا.
من زعم أنه يعرف كيفية ذات اللـه جل وعلا فهو واهم لأنه سبحانه وتعالى يقول وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلمًا [طه:110].
جل جلاله.. لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا مثيل له قُل هُو اللَّـهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
والسؤال: من الذى يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء؟!!
لم يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى .
أيها الموحدون: واللـه لا يعرف قدر رسول اللـه إلا اللـه.
إن قدر رسول اللـه عند اللـه لعظيم! وإن كرامة النبى عند اللـه لكبيرة!
فهو المصطفى وهو المجتبى فلقد اصطفى اللـه من البشرية الأنبياء واصطفى من الأنبياء الرسل واصطفى من الرسل أولى العزم واصطفى من أولى العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد واصطفى محمد ففضله على جميع خلقه. شرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وزكاه فى كل شىء :
زكاه فى عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ النجم: 2].
زكاه فى صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَن الهوىَ [ النجم: 3].
زكاه فى صدره فقال سبحانه: أَلم نَشْرح لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح: 1].
زكاه فى فؤاده فقال سبحانه: مَاكَذَبَ الفُؤادُ مَارَأىَ [ النجم: 11].
زكاه فى ذكره فقال سبحانه: وَرَفعنَا لَكَ ذكْرَكَ [ الشرح: 4].
زكاه فى طهره فقال سبحانه: وَوَضعنَا عَنكَ وزْرَكَ [ الشرح :2 ].
زكاه فى علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَديدٌ القُوىَ [ النجم: 5 ].
زكاه فى حلمه فقال سبحانه: بِالمؤمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ التوبة :128].
زكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيمٍ [ القلم: 4 ].
بأبى هو وأمى . .. هو رجل الساعة، نبى الملحمة، صاحب المقام المحمود - الذى يغبطه عليه كل نبى فى أرض المحشر - الذى وعد اللـه به نبينا فى قوله :
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء-79].
فهذا هو المقام المحمود كما فى حديث مسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر وأنا أول شافع وأول مشفع))([5]).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة كذلك أنه قال: ((إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين))([6]).
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال: ((فضلت على الأنبياء بسـت: أعطيـت جوامـع الكلـم (فهو البليغ الفصيح) ونصرت بالرعـب - وفى لفظ البخارى ((مسيرة شهر)) - وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون))([7]).
هذه مكانة النبى محمد ، بل لقد أنزل اللـه قرآناً يتلى ليربى وليعلم الصحابة كيف يتأدبون ويعظمون رسول اللـه وكيف يوقرون رسول اللـه وكيف يتأدبون حتى فى النداء على رسول اللـه .. ولكن الآن ما الذى حدث للأمة؟!!
فإن الأمة لم تعــرف قــدر نبيها إلا من رحم اللـه، ولم تعظم رســولها بل وقد أساءت الأدب مع رسول اللـه . فهجرت الأمة شريعته، وَنَحَّت الأمة سنته ولم تعد الأمة تجيد إلا أن تتغنى برسول اللـه فى ليلة مولد، فى ليلة هجرة، فى ليلة نصف من شعبان!!
فالأمة الآن ما عادت تجيد إلا الرقص والغناء، إنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة، أمة تدعى الحب لرسول اللـه وتتغنى برسولها فى المناسبات والأعياد الوطنية فى الوقت الذى نحت فيه شريعته وهجرت فيه سنته ولا حول ولا قوة إلا باللـه.
أحبتى فى اللـه:
الشمس فوق الرؤوس، الزحام وحده يخنق الأنفاس، البشرية كلها فى أرض المحشر من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة، فى هذا الموقف الرهيب المهيب.
المصطفى واقف على حوضه، والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك عدد كيزانه بعدد نجوم السماء من شرب منه بيد الحبيب شربة لا يظمأ بعدها أبداً ([8]) حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك فى جنات النعيم.
اللـهم اسقنا منه شربة هنيئةً مريئةً لا نظمأ بعدها أبدا ياأرحم الراحمين.
روى البخارى من حديث سهل بن سعد الساعدى يقول النبى : ((أنا فرطكم على الحوض يوم القيامة فمن مر علىّ شرب ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن على الحوض قوم أعرفهم ويعرفوننى ثم يحال بينى وبينهم)) وفى لفظ فى الصحيح ((ثم يختلجون دونى)) فأقول: ((إنهم من أمتي. إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدى))([9]).
ومعنى ذلك أن اتباع نهج المصطفى هو سبيل الفوز والنجاة.
انظر إلى الموحدين الذين امتثلوا أمر النبى ، ونهيه، وتعلم كيف كانوا حتى فى آخر لحظات لهم فى هذه الدنيا.
فهذا معاذ بن جبل على فراش الموت نائم يدخل عليه الليل ويشتد به الألم فينظر لأصحابه ويقول هل أصبح النهار؟! فيقولون: لا لم يصبح بعد، فيبكى معاذ بن جبل ويقول: أعوذ باللـه من ليلة صباحها إلى النار.
معاذ بن جبل يخشى أن يكون من أهل النار!!!
وهذا هو فاروق الأمة الأواب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذى أجرى اللـه الحق على لسانه وقلبه، يدخل عليه ابن عباس بعدما طُعِن ليذكره وليثنى عليه الخير كله فيقول عمر: إن المغرور من غررتموه، واللـه لو أن لى ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب اللـه قبل أن أراه. ثم قال عمر: وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لى ولا علىّ.
سبحان اللـه!!
وهذه هى عائشة تسئل عن قول اللـه تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [ فاطر:32].
فتقول عائشة: يابنى أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول اللـه وشهد لهم رسول اللـه بالجنة، وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر رسول اللـه حتى ماتوا على ذلك وأما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك.
اللـه أكبر!! جعلت عائشة نفسها معنا. جعلت عائشة نفسها من الظالمين لأنفسهم!!!
وهذا هو سفيان الثورى إمام الدنيا فى الحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول: أبشر يا أبا عبد اللـه إنك مقبل على ما كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين.
فبكى سفيان وقال: أسألك باللـه ياحماد أتظن أن مثلى ينجوا من النار؟!!
انظر كيف كانوا؟! وماذا قالوا؟
انظر إلينا كيف أصبحنا؟! وماذا نقول؟!
شتان. . شتان، نحن جميعاً نقول من منا لا يدخل الجنة؟!! من منا لا يشفع له رسول اللـه ؟!!
ها هو الحديث فى البخارى يبين فيه الحبيب النبى أنه سيحال بينه وبين أقوام حرَّفوا وبدَّلوا وانحرفوا عن سنته .
أسأل اللـه العظيم أن يغفر لنا ويرحمنا إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وأقول قولى هذا وأستغفر اللـه لى ولكم
الخطبة الثانية
ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى يوم القيامة؟
هذا هو عنصرنا الأخير فى هذا اليوم الكريم المبارك.
قال سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
ليقف كل مسلم صادق مع نفسه سائلاً: هل امتثلت أمر الرسول ؟ هل اجتنبت نهيه ؟! هل ارتبط اللسان بالجنان والجوارح ؟!
هل التزمت بهدى النبى فى شتى الأمور بحب واتباع وإخلاص !!
مــن يَدَّعِ حُـــبَّ النبـى ولم
يفد مــن هديـه فسفاهـةُُ وهراءُ
فالحب أول شرطــه وفروضـه
إن كان صدقـاً طاعـةُُ ووفــاءُ
أخى فى اللـه: من أسعد الناس بشفاعة الرسول يوم القيامة؟
والجواب مباشرة من صحيح البخارى: قال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول اللـه؟ فقال المصطفى ((لقد ظننت أنه لا يسألنى عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث ياأبا هريرة. أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا اللـه خالصاً مخلصاً من قلبه))([10]).
وفى رواية ابن حبان ((أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا اللـه خالصاً من قلبه يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه))
وفى صحيح مسلم أنه قال: ((لكل نبى دعوة مستجابة وإنى اختبأت دعوتى شفاعةً لأمتي، فهى نائلة إن شاء اللـه تعالى من مات من أمتي لا يشرك باللـه شيئاً))([11]).
إذاً حتى يشفع لك رسول اللـه يوم القيامة يجب توفر شرط هام جداً هذا الشرط أن تحقق التوحيد. أن تقول كلمة التوحيد خالصة من قلبك.
فمن الناس الآن من يردد هذه الكلمة بلسانه ولا يدرى ما يقول، ومن الناس من لم يخلص العبادة لله جل وعلا بل راح يصرف العبادة لغير اللـه.
فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى ولا يقف لها على مضمون ولا يعرف لها مقتضى.
ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا اللـه وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما يوافق هواه.
ومن الناس من ينطق بالكلمة ولا يتبع منهج الحبيب محمد !!
ومن الناس من يردد كلمة لا إله إلا اللـه وهو لم يحقق الولاء والبراء !!
ومن الناس من يردد بلسانه كلمة لا إله إلا اللـه وقد ترك الصلاة وضيع الزكاة وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا، وشرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، يسمع الأمر فيهز كتفه فى سخرية و كأن الأمر لا يعنيه، يسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه!!
فلابد من إخلاص التوحيد،كلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، بل إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلى ولكن الإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبِلَ منه. ومن قال خيراً وعمل شراً لم يُقْبَل منه.
وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبى قال: ((من شهد أن لا إله إلا اللـه وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد اللـه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله اللـه الجنة على ما كان من العمل))([12]).
وفى رواية عتبان بن مالك: ((فإن اللـه حَرَّمَ على النار من قال لا إله إلا اللـه يبتغى بها وجه اللـه)).
واللـه لن يسعد بشفاعة المصطفى إلا من أخلص التوحيد للعزيز الحميد واتبع المصطفى وأخلص له الاتباع.
ففى الحديث الذى رواه مسلم والترمذى واللفظ للترمذى من حديث أنس أن النبى قال: قال اللـه تعالى فى الحديث القدسى: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو أتيتنى بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))([13]).
إنه التوحيد. . فأسعد الناس بشفاعة الحبيب النبى من قال لا إله إلا اللـه خالصاً من قلبه، فكلمة التوحيد قد قيدت بشروط ثقال عند قبولها من الملك المتعال.
فهى شجرة طيبة جذورها الحب والإخلاص وساقها اليقين والقبول وأوراقها الانقياد ومن غير الماء والضوء لاتعيش، فالعلم لها ضوء والصدق لها ماء.
أسأل اللـه العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولى ذلك والقادر عليه.