صبره وتضحيته صلى الله عليه وسلم
عن عروة بن ال***ر قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال" "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )"(1).
وعن عائشة ( رضي الله عنها) زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال؛ فسلم علي، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً (2).
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل دعوةً وبلاغاً وجهاداً، و من ثم كان أكثرهم ابتلاءً وإيذاءً و أعداءً، بل كان الابتلاء حليفه منذ ولادته يتيما فاقداً أباه ثم أمه متنقلاً من حضن إلى حضن، تكلؤه عناية الله، وتحوطه مبرته، حتى أشرقت شمس الدعوة إلى الله تعالى، وحينها اشتد الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولاقى من قومه وعشيرته وقرابته ما يشيب منه النواصي، ويزلزل الجبال الرواسي!
لقد نصبوا له العداء، فرموه بكل ما قدروا أن يرموه به من السحر والكهانة والشعر والجنون، وغير ذلك مما درجوا على التفوّه به زوراً وبهتاناً، وهو البراء من ذلك كله، فلازم الصبر الجميل الذي تواتر حضّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته به في مواضيع كثيرة من كتابه الحكيم كما في قوله: (واصبر وما صبرك إلا بالله) (3) وقوله تعالى: (فاعبده واصطبر لعبادته) (4) ،وقوله تعالى: (واصبر نفسك من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (5).
وما فتئ القرآن الكريم يذبُّ عنه افتراءاتهم، ويدحضُ أباطيلهم، فتبوء أقوالهم بالخيبة والخسران.
وحتماً.. لشريفُ القدر، العظيم الهمة، الكريم المعدن، لا يقدر على تحمل ذلك؛ فقول الزور والبهتان ينزل على مسامعه وقلبه كالصواعق، فتهد كيانه، وتشغل فؤاده، حيث يعلم براءة نفسه، وعزة أصله، وصدق منطقه، ثم هو بما يمتلكه من إحساس مرهف ورقة مشاعر يضيق صدره بما يقلون، وتتألم نفسه عند سماع تلك الأقوال الباطلة الأفاكة، لاسيما من قومه وقرابته الذين يعرفون أمانته وصدقه كما يعرفون أنفسهم وأبنائهم.
وظلم ذوي القربي أشدُّ مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند(6)
ويعظم البلاء به صلى الله عليه وسلم لعظم جهلهم وتمادي طغيانهم وق*** قلوبهم، حتى بالغوا في إيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم جسديا ومعنويا – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – فأُخِذ بتلابيب ثوبه حتى سقط على ركبتيه، ولوي عنقه بالثوب حتى خنق خنقاً شديداً، ووضع سلا الجزور على ظهره الشريف، وهو ساجد لربه تعالى! (7).
ورمي بالحجر حتى أدميت قدماه، ودبر قتله في مكيدة عظيمة، وشق وجهه، وخرج طريداً من الطائف مهموم القلب حائراً ... يدعو مولاه سبحانه ويشكو إليه ضعف قوته وقلة حيلته، وهوانه على الناس، مناشداً رب المستضعفين مستعيذاً بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات أن ينزل به غضبه، أو يحل به سخطه!
فيرسل له ربه له ملك الجبال ويراوده أن يطبقها على مكذبيه إن شاء فيجيبه: بل أرجو أ يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" !
فعجباً ثم عجباً لصبره الجميل وتحلمه الذي عز عن المثيل!
صبر.. يستحيل العذاب معه إلى لذة مناجاة، وقرب من مولاه!
صبر .. يرتقب من زواياه الضيقة وآلامه المبرحة أفقاً رحباً وأملاً ممتدا لأمة توحد الله وتعظم حرماته وتحقق شريعته.
منقووووووووووول