العبادة في رمضان
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة
الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
حديثنا اليوم عن " العبادة في
رمضان " ، وقد أظلتنا أيامه ولياليه وقد أقبل علينا بخيراته وبركاته .
وكثير من
الناس يتساءلون ما بالنا نختلف في شهر رمضان عما في غير هذا الشهر ، فإذا قلوبنا
أسرع خشية لله - سبحانه وتعالى - وأكثر رقة وتأثرا بآيات الله - سبحانه وتعالى -
وإذا أعيننا لا تدمع من خشية الله ولا من سماع كلام الله إلى في هذا الشهر العظيم
وفي لياليه المباركة ؟
ويسألون : من أين لنا هذه القوة التي
تجعلنا نقبل على الطاعات التي لم نتعود عليها ونقبل إليها إقبال المشتاق إليها ،
والمحب لها ، والراغب فيها ، والمستأنس بها .. ونصلي ما شاء الله لنا أن نصلي فنصلي
صلاة التراويح ونجمع معها في أخر الشهر صلاة التهجد ونكثر من تلاوة القرآن ومن ذكر
الله سبحانه وتعالى وتنطلق أيدينا بالإنفاق في سبيل الله وأمور أخرى كثيرة لا يكون
الإنسان والعبد المؤمن فيها كما يكون في شهر رمضان ؟
فما هو هذا السر الذي تكون به العبادة
على هذا الوجه وذلك قطعاً بالنسبة للإنسان المسلم المؤمن العابد لله سبحانه وتعالى
؟
وهو الذي ينصب حديثنا عنه وهو الذي نلمح مدى استفادته لهذا الشهر العظيم ،
وأما الغافلين المعرضين وأما الساهين اللاعبين فلنا معهم حديث نفرق بينهم وبين
هؤلاء ، فأي شيء في هذا الشهر العظيم يجعل الإنسان على هذا النحو من القرب من الله
- سبحانه وتعالى - والإقبال عليه والإنابة إليه ودوام الصلة به سبحانه وتعالى
؟
لو تأمل الإنسان ؛ فإنه لن يجد أسباباً مادية لهذا الأمر ؛ فإن رمضان
أيامه ولياليه مثل سائر أيام العام ولياليه ، وليس بينها وبين غيرها فرق وكذلك
الإنسان نفسه هو هو ..لم يتغير هو بعقله وفكره وقلبه وخواطره وقوة بدنه لم يتغير
فيه شيء ، بل ربما يكون في شهر رمضان فيه بعض الضعف البدني بسبب الصوم وكثرة
العبادة ومع ذلك تكون عنده هذه القوة .
نتحدث عن هذا السبب من وجهين اثنين -
وهما مهمان - ينبغي للمسلم أن يتعرف عليهما ، وأن يتفاعل معهما ؛ ليستنبط منهما ما
يحيي قلبه ، وما يجعل عبادته لله - سبحانه وتعالى - في هذا الشهر عبادة خالصة كاملة
تنفعه وتحي قلبه وتذكّره بما كان عليه من الغفلة ،وكذلك ليستنبط من هذا السر أو من
هذا التعليل والتعليل ما يجعله منتفعا به في غير شهر رمضان ، فيكون له من الخير في
غير رمضان بعضاً من هذا الخير العظيم الذي يكون له في رمضان .
الأمر الأول : هو فضل الله - سبحانه
وتعالى - وحكمته البالغة في خصيصة من خصائصه - جل وعلا - لا يشاركه فيها أحد يظهر
ذلك لنا من قول الله سبحانه وتعالى : { وربك يخلق ما يشاء
ويختار ما كان لهم الخيرة } .
هو سبحانه وتعالى له حق الاختيار والاصطفاء
والتفضيل ، فيجعل من البشر من هو أفضل من غيره ويجعل من الأمكنة ما هو أفضل من غيره
ويجعل من الأزمنة ما هو أفضل من غيره وذلك لحكمة بالغة تبنى على علمه المحيط الشامل
سبحانه وتعالى.
وتتضمن أيضا رحمة بالعباد ومنفعة لهم وخيرا يسوقه الله -
سبحانه وتعالى - إليهم ونفحات من الإيمان ، ومواسم من الخير يزفها - جل وعلا -
بفضله ومنه وجوده وكرمه على عباده حتى يغتنموها ، فيأخذوا من خير الله ويتعرضوا
لنفحات الله سبحانه وتعالى.
فالله اختار من البشر رسلاً وأنبياء فضّلهم على سائر
البشر بالوحي الذي أنزله عليهم لحمة بالغة ،كما قال الله سبحانه وتعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } .
وكما قال جل
وعلا : { الله يعلم حيث يجعل رسالته } .
فاصطفى
من صفوة الخلق ومن خيار البشر أولئك الرسل والأنبياء ، ففضلهم بهذه المنة على سائر
الناس وإن كان في ذلك حكمة له - سبحانه وتعالى - بالغة إلا أن فيه أيضاً رحمة وخير
للعباد فالرسل والأنبياء جاءوا بما يحي القلوب ، وبما يبين طريق الحق من الباطل ،
وما يبين الشر من الخير فكان لهم أثر في الهداية والبيان والتبليغ عن الله سبحانه
وتعالى.
وفضّل الله - جل وعلا - بعض الأمكنة على
بعض وليس ذلك أحد إلى له - سبحانه وتعالى - فجعل البيت الحرام ، وجعل المسجد النبوي
الشريف ، وجعل بيت المقدس أيضاً أماكن لها من المزية ما ليس لغيرها ، مع أنها من
الناحية المادية ليس بينها وبين غيرها فرق فأرضها أرض وسماءها سماء وحجارتها مثل
سائر الحجارة وكذا جبالها وسهولها ووديانها ولا شيء يميزها عن غيرها إلى أن الله -
سبحانه وتعالى -خصها بالتفضيل وجعل لها مزية في الأجر والثواب وأحكاما في الحرمة
والتعظيم ليس لغيرها وكان من أثر ذلك فضل ومنة على أهلها كما قال الله - سبحانه
وتعالى - في دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام :
{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
فإذا القلوب من أقاصي الأرض شرقها
وغربها ، شمالها وجنوبها ، تهفوا إلى تلك الأماكن المقدسة تقطع الفيافي القاحلة
والمسافات الشاسعة وتركب الصعب والذلول وتنفق الأموال وتجهد الأبدان وما من شيء إلى
أنها قد تنتقل من جنان خضراء إلى أرض صحراوية قاحلة ومن أراض غناء إلى أراض جرداء
وما يحدوها إلى ذلك الشوق وتلك المحبة وذلك الفضل الذي جعله الله سبحانه وتعالى
للديار المقدسة .
وكما فضل الله جل وعلا من البشر ومن الأمكنة فضل في
الأزمنة فجعل هذا الشهر العظيم مفضلاً على سائر شهور العام وخصه بإنزال القرآن
الكريم فيه وفضل ليلة القدر من بين لياليه وجعل الأمور والأعمال فيه مضاعفة الأجر
كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله صلى الله عليه وسلم : ( عمرة في رمضان كحجة معي ) .
وذلك من تفضيل هذه الأيام
المباركة ومن تعظيمها وما يقع الإنسان فيها من خير وتيسير في العبادة والطاعة
.
ومن رحمته سبحانه وتعالى ومن مغفرته ومن
عتقه جل وعلا من النار كما أخبر عن هذا الصيام وعن هذا الشهر رسولنا صلى الله عليه
وسلم كما ورد في وسند الإمام أحمد عنه عليه الصلاة والسلام :
(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب
منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه .
قال : فيُشفّعان) .
وهذا من الفضل والأجر والمنة ويخبرنا الرسول صلى الله
عليه وسلم أن : ( رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت
الكبائر ) .
ويخبرنا صلى الله عليه وسلم أن شهر رمضان شهر الرحمة
والغفران .
كما أخبر في الصحيح عنه - عليه الصلاة
والسلام - أنه قال : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما
تقد من ذنبه ) .
أفليس هذا موسم خير ؟ أوليست هذه فضيلة ؟ من كان له عقل
ومن كان له قلب حي ومن كان له قصد في التوجه إلى الله ، ومن كان له تعلق بأن تكون
أخرته عند الله خير من دنياه ؛ فإنه يقبل على هذه العبادة ؛ لأنها موسم محدود وأيام
معدودة.
فالذي يفكر كما يفكر أهل التجارة وأهل
الدنيا إذا جاء موسمهم وإذا جاءت الأوقات التي يعلمون أن الناس يقبلون فيها على
الشراء ويدفعون فيها الأموال ، بل إنهم يجمعون أموالهم ويهيئون أوقاتهم في مواسم
معينة ، أو يتكاثرون في أماكن معينة قي أوقات معينة ، فماذا يصنع أهل الدنيا من
التجار إنهم يفرغون وقتهم ويبذلون جهدهم ويواصلون ليلهم بنهارهم ويعملون كل
الأساليب التي تجذب الناس إليهم ؛ فإن قلت لهم : لماذا لا ترتاحون قليلاً وعندكم
أيام متوالية وعندكم شهور متتالية ؛ فإنهم يقولون إن هذا موسم ومن الجهل والحمق أن
تفرط في هذا الموسم الذي فيه الأجر والذي فيه الربح الكثير ، ثم بعد ذلك تجتهد في
أيام لا يأتيك فيها أحد وليست بموسم وليست بوقت إقبال.
فهذا موسم الخير جعله الله - سبحانه
وتعالى - من فيض رحمته وجوده وعلمه بضعف العباد وأنهم لا يقوون على الطاعة الكاملة
في كل وقت وفي كل حان فجعل لهم في أيام دهرهم نفحات تهب عليهم نسمات الإيمان وتتنزل
عليهم بركات وخير الرحمن سبحانه وتعالى فتتهيج قلوبهم وتنبعث نفوسهم للطاعة
والعبادة وهذا هو السر الذي يقبل لأجله الناس على الطاعات لأن الخير في هذا الشهر
كثير ولأنه موسم محدود بأيام وليالي معدودة فمن فاته يوشك أن يكون محروماً مطروداً
.
وليس ذلك وحسب بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم -ربط فضيلة هذا الشهر وربط
لنا أجره بأمر عظيم وهو ما ذكره المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي
عن رب العزة والجلال تبارك اسمه حينما قال : ( كل عمل ابن آدم
له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) .
فالله - سبحانه وتعالى - يطلع على صومك
ويرى إخلاصك ومراقبتك له سبحانه وتعالى فيجعل جزاء الصوم منه مباشرة وكل الأعمال
جزاءها من الله ولكن هذا التخصيص لمزيد من الفضل ولمزيد من بيان سر هذا الصوم وهذه
العبادة ؛ لأن فيها كمال الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - فماذا يقول في هذا الحديث ؟
( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) .
أي من
أجل الله سبحانه وتعالى ومن أجل طاعة الله - سبحانه وتعالى - ومن أجل مخافة الله -
سبحانه وتعالى - لا ترقبه أعين الرقباء ولا ينظر إليه أحد من الناس وإنما قلبه
يستشعر رقابة الله - جل وعلا - فيكون الأجر والجزاء كفاءا : ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ) .
( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) .. ( في الجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون ، فإذا كان يوم
القيامة ينادي مناد فيقول أين الصائمون فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أغلق فلا
يدخل منه أحد غيرهم ) .
هكذا أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لهذه الفضائل ، وذكر لنا أن الشياطين تسلسل في شهر رمضان ، فكل هذا التخصيص
الذي خصه الله سبحانه وتعالى وهذه الفضائل التي بلغها لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلمهي السر الذي تجعل النفوس مهيأة للعبادة والطاعة .
السبب الثاني - وهو أيضاً مهم جداً –
وهو : أن الإنسان المؤمن من المفروض يكون معلق القلب بالله صحيح القصد والتوجه نحو
الله - سبحانه وتعالى - يجعل كل شأن من شئون حياته .. كل لفظة من كلماته ..كل حركة
أو سكنة من سكناته عبادة لله سبحانه وتعالى .. {قل إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين } .
هذا هو الأمر المطلوب ، وهذا هو الشأن في العبد المؤمن الذي
يكمل إيمانه والذي يعظم إخلاصه والذي يصدق توجهه لله - سبحانه وتعالى - ولكن ما
الذي يحصل هذا القلب يتشتت في مهاوي وفي شهوات الدنيا وفي مشاغلها .
وهذا التشتت
أخبر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ببعض الصوارف التي تصرف القلب عن الله -
سبحانه وتعالى - وبين علاجها من شرع الله جل وعلا ونرى هذا العلاج متجسداً في شهر
الصوم وفي شهر رمضان المبارك ، ما الذي يصرف القلب عن التعلّق والإخلاص لله سبحانه
وتعالى ؟
فضول المنام : أي كثرته الزائدة عن الحد
.
وفضول الكلام : أي كثرة الكلام فيما لا يرضي الله - سبحانه وتعالى - من غيبة
أو نميمة أو كثرة الكلام باللغو الباطل من غير تلاوة ولا ذكر ولا علم ولا تعلم
.
وكذلك فضول مخالطة الأنام : وكثرة الاختلاط بالناس والانشغال بهم والانشغال
معهم والتعلق بهم والتفكير فيهم فينشغل القلب عن الله سبحانه وتعالى .
وكذلك
كثرة الطعام والشراب : الذي تمتلأ به البطون وإذا امتلأت البطون كما يقولون : إذا
امتلأت البطون ضعفت الأذهان .
وبذلك إذا أكل الإنسان كثيراً نام كثيراً وإذا نام
كثيراً فاته خير كثير كما قال أسلافنا رحمة الله عليهم .
والله سبحانه وتعالى - كما يذكر شيخ
الإسلام - قد شرع من الأمور ما يضاد هذه الشواغل وما يرد المؤمن إلى كمال تعلق قلبه
بالله سبحانه وتعالى .
فماذا شرع لفضول الكلام ؟ شرع لفضول الكلام وكثرته
التعظيم للسكوت والتفضيل للسكوت إلا عن الخير كما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - حينما قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل
خيراً أو ليصمت ) .
وكذلك شرع له كثرة الذكر كما قال صلى الله عليه وسلم
في وصيته العظيمة : ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ).
وكما قال سبحانه وتعالى : { ورتل القرآن ترتيلاً }
.
فإذاً هذا هو علاج كثرة الكلام الصمت إلا عن الخير والكلام والنطق بذكر الله -
سبحانه وتعالى - هذا هو الأمر الذي شرعه الله لعلاج هذه الصوارف التي تصرف القلب عن
الله .
والأمر الثاني في كثرة المنام : شرع
الله - سبحانه وتعالى - صلاة القيام والتهجد والطاعة لله - سبحانه وتعالى - لترد
المؤمن عن كثرة نومه وغفلته حتى أن كثيراً من الناس - نسأل الله السلامة - ينامون
عن صلاة الفجر ويتحقق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) .
ويتحقق قول النبي عليه
الصلاة والسلام في الصحيح : ( يعقد الشيطان على قافية رأس
أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد
... ) .
أي نم ؛فإن الليل طويل لا تذكر الله ولا تسبح الله ولا تقوم لتصلي لله
ولا تستيقظ لصلاة الفجر فشرع لأجل معالجة فضول المنام القيام وصلاة القيام
.
وشرع لأجل فضول مخالطة الأنام سنة
الاعتكاف ، التي هي في هذا الشهر العظيم وفي غيره أيضاً فالمعتكف يخلو عن الناس
وينفرد في معتكفه وفي مسجده طائعاً لله - سبحانه وتعالى - لا يشغل وقته إلا بالذكر
والتلاوة وبالصلاة والعبادة وبالدعاء والمناجاة ، ولا يتكلم في شأن من شئون الدنيا
، بل لا يخرج إليها ليشهدها ولا ينظر ما فيها وفي بهرجها ولا يختلط بالناس
فيها.
حتى إن الفقهاء يقولون : إن المعتكف إذا اشترط الاعتكاف الكامل فإنه لا
يخرج إلى دفن الجنائز بل يصلي عليها ولا يخرج معها إلى المقابر وذلك ليتم للعبد
العكوف الكامل والإقامة الدائمة على طاعة الله ولذا يقول العلماء في الاعتكاف : "
إنه عكوف القلب على الله سبحانه وتعالى " .
فما أعظم هذه السنة ! التي يلمح
الإنسان فيها كم يفيض الله عليه من الخير وكم يكون قلبه صافياً خالصاً ونفسه مطمئنة
ساكنة وقوته عظيمة كبيرة في طاعة الله ؛ لأنه تفرغ عن هذه المشاغل
.
وشرع لفضول الشراب والطعام : الذي أخبر
عليه الصلاة والسلام أنه علاج ووجا للشهوة .
كما قال عليه الصلاة والسلام : (
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع
فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) .
قال أهل العلم : " وجاء - أي علاج أو وجاء
- بمعنى القطع وجئ يعني قطع فهو قاطع للشهوة مقلل لها " .
فالصائم حينما يصوم
يضيق مجرى الشيطان كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان يجري من ابن أدم
مجرى الدم في العروق فضيقوا مجراه بالصوم .
فهذه إذاً تحققت بهذه العلاجات
الربانية حينما تتحقق يكون الإنسان مهيئاً للعبادة أكثر ويكونه إقباله عليها أعظم
.
ولو تأملنا لوجدنا هذه الأمور كلها كلها
في هذا الشهر . ففيه الصيام امتناع عن الشراب والطعام ، وفيه القيام إحياء لليل
بالعبادة والتلاوة والصلاة ، وفيه الاعتكاف اختلاء بالله وبعد عن الناس .
وفيه
أيضا كثرة الذكر والتحذير من أن ينشغل اللسان بشيء مما فيه مذمة هو مذموم في كل وقت
، ولكن ذمه في رمضان أكثر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( فإن سابه
أحد أو شتمه فليقل إني صائم ).
هذه التربية الإيمانية كلها في شهر
رمضان وبالتالي من البديهي أن يكون الإنسان الذي امتنع عن الطعام والشراب والذي لهج
لسانه بذكر الله . وامتنع عن الغيبة والنميمة والزور وغير ذلك من لغو الكلام وباطلة
.
وامتنع عن كثرة مخالطة الناس فأغلب وقته منشغل بالعبادة والطاعة لله سبحانه
وتعالى ، وامتنع عن كثرة النوم فإذا به يحي ليله ونهاره بالعبادة أليس ذلك له أثر
في القلب والنفس .
فإذا الإقبال يكون عظيماً ومن هنا أي من هذا الاختيار الذي
اختاره الله تفضيلاً لهذا الشهر والفضيلة الذي ساقها فيه.
ثم من الظروف الأخرى التي تهيئ النفس
والقلب لأن تكون قريبة من الله سبحانه وتعالى من هنا تعظم العبادة ومن هنا تعظم قوة
الروح فإذا هذا الإنسان الذي لو طلب منه قبل شهر رمضان بليلة واحدة أن يصلي ركعتين
ربما تقاعس أو تكاسل ولو صلى لإمام فيما قبل رمضان أو فيما بعد رمضان يريد الناس أن
يصلوا ورائه لم يصل معه أحد وما ذلك إلا لأن النفوس بهذه الفرائض وبهذه السنن تتهيأ
للإقبال على طاعة الله فالسعيد من فطن للأمرين ومن أتى بهم على وجههما فتكمل حينئذ
عبادته ويصح إقباله على الله ويرى من خيرات العبادة ولذتها وراحتها ما يجعله
مستأنسا بها راجيا في ثواب الله سبحانه وتعالى .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإن هذا الذي أشرت إليه هو الذي يحصل
عند الإنسان المسلم الذي يعرف أمر الله - جل وعلا - ويعرف رحمة الله وخيره الذي
يسوقه إليه عندما يعرف هذه الفضيلة ويمتثل تلك السنن التي أشرنا إليها يحصل له
الأمر المهم الذي به يرى ما يرى من الخير والبركة وذلك الأمر هو أن يشعر بأنه أتى
بالعبادة على كمالها بتمام خشوعها وبكمال إخلاصها وبعظمة استشعار واستحضار مقامه
بين يدي الله سبحانه وتعالى ومن هنا إذا أتى بها على هذا النحو وجد لذتها وذاق
حلاوتها.
مشكلتنا في عبادتنا - إلا من رحم الله - أننا لا نأتي بها على
وجهها الكامل .. قلوبنا منشغلة ضاربة في أودية الدنيا .. عقولنا تفكّر هنا وهنا فلا
نقبل على الله ، وبالتالي لا نجد لذة العبادة ولا نجد روحانيتها ولا نجد راحتها
وسكينتها وإذا لم نجد ذلك فإن العبادة تكون علينا شاقة فالذي لا ينفل بهذا ويتأثر
به تكون العبادة وكأنها حمل ثقيل ينوء به كاهله .
وبعض الناس اللذين لا يعرفون هذا الخير
يرون رمضان كأنه عقوبة إجبارية وكأنه محنة ومشقة فريضة عليهم فينتظرون مغرب كل يوم
بفارق الصبر ليبطلوا كل هذه الآثار الكريمة فيملئون بطونهم بالطعام والشراب إلى حد
التخمة وإذا جاء النهار قتلوه نوماً وكسلاً وأفنوا بذلك سنة
القيام.
وكذلك يجتمعون في مجالس يغتابون فيها أو
يتحدثون فيها بشئون الدنيا أو ينصرفون أو كذا ، وكذلك يكثرون بالاختلاط بالدنيا
وأسباب الدنيا في بعض أحوالهم أكثر من غيرها ، فإذا بهم يتفننون بالشراء من الأسواق
وإذا بهم يفرغون كثيراً من الأوقات للذهاب هنا وهناك وللانتقال بين الأسواق ولا
يحلوا لهم أن يشتروا أشياءهم إلا في هذا الشهر ، ولا يحلوا لهم أن يقضوا بعض أمورهم
إلا في هذا الشهر ، فحينئذ أمثال هؤلاء لا ينتفعون بالشهر ولا يجدون لذته ولا يجدون
أثر العبادة فيكون الأمر عليهم شاقاً ، فإذا صلى الإمام في التراويح فقرأ بضع آيات
شعروا بأنه قد أثقل عليهم وطلبوا منه التخفيف وما عرفوا ما كان من عهد النبي صلى
الله عليه وسلم وليس كذلك له - عليه الصلاة والسلام - بل في أصحابه وليس في أصحابه
بل فيمن جاء بعدهم تلك الأمثلة التي حينما نسردها يظنها بعض الناس خيالاً وما هي
بخيال ، ويظنونها محالاً وما هي بمحال .
ولكن الذي يجد لذة العبادة ويجد راحتها
لا تشق عليه مهما طالت ومهما كانت متعبة مرهقة ؛ لأن قلبه مطمئن بها ولأن نفسه
مقبلة عليها ولأن صدره منشرح لها ولأنه يقبل إليها إقبال المحب إلى حبيبه وإقبال
العطشان الذي بلغ به الظمأ إقباله على الماء فهل تراه يستصعب المسافة أو يستثقل
الجهد إنه يقبل لأنه يروي ظمأه لأنه يبلل عروقه لأنه يقوي نفسه لأنه يجد كما أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة
) .
أي كمال الطمأنينة والسكينة والراحة والأنس إنما هو في العبادة إذا أتى بها
على وجهها ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( أرحنا بها يا
بلال ) .
فكانت راحته التي يأنس إليها وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة
وحقق قول الله سبحانه وتعالى : { يأيها الذين أمنوا استعينوا
بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } .
من هنا فقط إذا أتينا أو إذا
عرفنا هذه الأسرار وتفاعلنا بها وجدنا اللذة وإذا وجدنا اللذة كان الإقبال وكان قوة
الاحتمال وهذا الذي يفسر لنا ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبرنا
ابن مسعود أنه صلّى خلف النبي - عليه الصلاة والسلام - فافتتح البقرة قال : فقلت
يركع عند المائة ، فتجاوزها ، فقلت : يركع عند المائتين ، فتجاوزها ، فقلت : يركع
عند أخر السورة ، فتجاوزها حتى قرأ النساء ، قلت : يركع عند أخرها فتجاوزها حتى قرأ
آل عمران ، قال ابن مسعود : حتى هممت بأمر سوء . قيل ما هممت يا ابن مسعود : قال
هممت أن أقعد وأدعه ؛ لأنه لم يستطع أن يواكب النبي عليه الصلاة والسلام
.
فهل للنبي قوة من ناحية المادية أقوى من ابن مسعود ..كان ابن مسعود أشب
منه وأصغر سناً ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكمل في عبادته وخشيته وتعلق
قلبه بالله فوجد لذته في العبادة ، فمهما طالت ومهما شقت ؛ فإنها عندما تلاقي القلب
المطمئن والنفس الراضية لا يحصل من ذلك ولم يكن ذلك له عليه الصلاة والسلام كما
أشرت بل لأصحابه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى
الله عليه وسلم لقيه مرة فقال له : ( يا عبد الله ألم أخبر أنك
تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة ؟ ) ، هذا الذي بلغ
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن عمرو بن العاص - وهو شاب صغير - أيضاً
أنه كان يصوم فلا يفطر يعني يصوم الأيام كلها يوما إثر يوم ، وأنه يصلي فلا ينام أي
يقوم الليل كله حتى الفجر ، وأنه يقرأ القرآن في كل ليله .
فقال : بلى يا رسول
الله هذا أمر كائن .
آخر الحديث النبي - عليه الصلاة والسلام
- برحمته ومنهجه وشرعه الذي بلغه عن الله رده عن الاعتدال قال : ( صم يوم وأفطر يوم ، ونم نصف الليل ثم قم ثلثه ثم نم سدسه ) ،
ورده إلى أن يختم القرآن في خمس أو في سبع .
لكن الشاهد هو كيف كانت قوة عبد
الله حتى كان يطيق هذا ما كانت عنده قوة إلى أنه أقبل إقبالاً خالصاً وأخلص إخلاصاً
كاملاً فحينئذ حصلت له لذة العبادة فهانت عليه مشقتها .
وكذلك كان كثير من
الصحابة رضوان الله عليهم حتى ذكر في وصفهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة جاءت الطير
فوقعت على رؤسهم .
لأنهم كانوا من طول وقوفهم ومن قلة حركتهم وكثرة سكونهم كأنهم
بأمثال الأشجار أو الأعمدة تأتي الطير فتقف عليها لا تراها متحركة ، وهذا من عظمة
إقبالهم على الله - سبحانه وتعالى - وشيخ الإسلام الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله
عليه ذكر في ترجمته : " أنه بعد أن أسن وبلغ الثمانين عاماً وجلد في فتنة خلق
القرآن ، ضعف جسمه بسبب السن وبسبب التعذيب ، فصار يصلي في كل يوم وفي كل ليله مائة
وخمسين ركعة ، وقد كان ورده وصلاته من قبل ذلك ثلاثمائة ركعة ".
فهذا في
الثمانين وقد عذب وجلد ثم هو يصلي مائة وخمسين ركعة . هل كانت عنده قوة بدنية ؟
كلا ! ولكنها قوة الروح حينما تخلص لله سبحانه وتعالى وتصدق في
توجهها.
فإذا اغتنمنا هذا الشهر وانتفعنا به
وبالفعل جعلنا الصوم مقللاً للطعام والشراب . وجعلنا القيام مقللاً للنوم والكسل .
وجعلنا الاعتكاف مخلصاً للإنسان في وقت من الزمن يخلوا به مع ربه سبحانه وتعالى .
وجعلنا الذكر والقرآن مخلصاً من كثرة كلام واللغو سيحصل لنا نوع من صدق التوجه إلى
الله وكمال الإخلاص.
نسأل الله - سبحانه وتعالى - من فضله وحينئذ نشعر بلذة
العبادة فتخشع قلوبنا وتذرف عيوننا وتسجد جباهنا وتطمئن قلوبنا ، ونبقى نحب هذه
العبادة ونقبل عليها ونزداد منها ولا نستطيل فيها وفي أدائها وقتا ولا نستثقل فيها
وفي أدائها جهدا بل تكون علينا بردا وسلاما ومحبة وشوقا لله سبحانه وتعالى .
أما
حينما يغفل الإنسان عن هذا ويفرط في هذا الجانب ؛ فإنه لا يحظى في هذا الشهر بكثير
من الخيرات . نعم يحظى بالخير -إن شاء الله - وبالأجر - إن شاء الله - لكنه يكون
قاصراً عن هذه المرتبة التي شرع فيها في هذا الشهر من السنن ما يهيئ الإنسان لهذه
المنزلة العظيمة .
فالذين يضربون في الأسواق والذين ينشغلون بالكلام والقيل
والقال والذين يقتلون رمضان كسلاً ونوماً ، والذين يفرطون في هذه الأمور إنما هم
كمثل إنسان قدمت إليه أطباق من الذهب والفضة فركلها بقدميه أو انصرف عنها وأشاح
عنها بوجه فلا يقال عنه إلا أنه أحمق وإلا أنه مجنون وإلا أنه مفرط في حق نفسه
وسيندم في وقت قد لا ينفع فيه الندم.
فالبدار البدار إلى طاعة الله ، والسباق
السباق إلى الإقبال على الله ، والحرص الحرص على الإخلاص لله سبحانه وتعالى ،
والاهتمام الاهتمام بألا يضيع هذا الموسم وننشغل فيه بما قد نستطيع قضائه في غيره
.
فالله الله في أن نغتنم الأوقات وأن نستفرغ الجهد ونفرغ الطاقات في طاعة الله
جل وعلا.