الغربان والخريف

الغِربان والخريف..


عدنان كنفاني


نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها رقم 8251 تاريخ 1/7/2001

نقلاً عن مراسل التلفزيون الإسرائيلي الرسمي من مدينة "إيلات" مساء

يوم الجمعة 22 حزيران 2001 الخبر التالي:

(غربان لا تكتفي بنعيق الشؤم، بل تغير بالمناقير على رؤوس الناس في

الشوارع. في مدينة الهدوء والسكينة حلّت الغربان محل حمامات السلام.

ولعل ذلك يرمز إلى حالنا بالكامل.!)


جعلوا منها مدينة سياحية.! فقد حباها الله -إلى جانب موقعها
المثالي على شاطئ الساحل الشمالي للبحر الأحمر، وفي أقصى جنوب أرض فلسطين-
بطبيعة خلاّبة وطقس معتدل جميل، أقاموا على أرضها أفخر الفنادق والمطاعم
والمتنزّهات، وزيّنوها بشوارع عريضة، وأضواء زاهية متلألئة ، وحاناتٍ
ضاجّة، ثم أطلقوا عبر أجهزتهم الإعلامية حملات دعائية كرّست المدينة لتكون
إحدى أهم المدن السياحية في المنطقة.

قالوا:


ـ إيلات مدينة المتعة والرفاهية..


عندما التهبت أرض فلسطين بأحداث الانتفاضة، وتبدلت أجساد رجالها
وأطفالها إلى براميل مفخّخة تتدحرج على الغزاة المستوطنين من كل صوب وحدب،
بعضها ينفجر، ويوقع بينهم الموت والدمار، وكلّها مكامن رعب تترصّدهم على
مدار الساعة، وتزحف حثيثاً على منابت أعصابهم تتلفها، تمزّقها، وتبعث في
قلوبهم فزع انتظار لموت يوشك أن ينقضّ عليهم؛ قالوا:


ـ إيلات مدينة الأمان.


"يوسي" اليهودي القادم مع زوجته وابنته من بولونيا على جناح الحلم
الخُرافي، صدم بسيارته المصفّحة جذع شجرة الجوز المعمّرة التي تحجب بكثافة
أغصانها إطلالة شرفة البيت الذي استوطن فيه.


بيت جميل ساحر، في مستوطنة أنشئت حديثاً على أعتاب قرية "الخضر"، قدّمته وزارة المستعمرات مكافأة لمواقفه المتطرّفة.


صمد الجذع العجوز، لكن الفروع الطريّة اهتزّت بعنف، فسقطت حبّات الجوز الخضراء الناضجة، وسقط معها فرخ غراب من عشّ مبنيّ على قمتها.


ومنذ لحظة سقوطه، سكنت أمّ الفرخ الصغير الأفق المشرف دائماً على حركة يوسي.!


تطلق بين الفينة والأخرى صيحات حزينة، وتراقب بعينين حذرتين غرابها الصغير يستكين بحنان بين راحتي فارس.!


لم يكن ذلك الفتى الصغير يدرك أن الغربان لا تربّى في أقفاص،
وأنها لم تكن يوماً صديقة لبني البشر، ليس لأنها طيور قبيحة تستمد قوتها
من بقايا جيف الحيوانات المتفسّخة التي تنذر بالخراب، بل لأنها كما تقول
جدّته: طيور محظوظة، أفلتت من ظلم الإنسان وأسره بسبب تلك الأوهام
الخرافية التي يحسبونها تأتيهم من أشكالها وأصواتها.


تقول جدّته: الغربان طيور رائعة الجمال، ألوانها تشبه ألوان
الحياة، تحمل ذلك الموج البديع المتفلّت من السواد الثقيل إلى تدرّج رمادي
قاتم وساحر، يوازي بحدّته أجيج القسوة المنبعث من عيونها الثاقبة، تطلق
صيحاتها المبحوحة عن قصد، فتبعث رهبة في الضمائر المثقلة بالذنوب.


كانت السقطة قويّة على جسد الطائر الطريّ الذي لم تسكنه بعد
منابت الريش، وكان عليهما "الفرخ وفارس" أن يمضيا قدماً على طريق شرعة
البقاء، وأن يتبادلا نبضات الحياة بالتواصل الحميم بين فميهما.


يطعمه ويسقيه، ويدفع في رئتيه الضعيفتين نفحات من أنفاسه.


بعد أيام فتح القاق الصغير عينيه.


قالت جدّته: أنت الآن أمّه، الطيور يا بني أول ما تفتح عيونها تنطبع في صورِ ما ترى أدمغتها صور أمّهاتها.


يوم بدأت بيوت المستوطنة تحتّل المرتفعات المحيطة بقريتهم، كان فارس طفلاً لم يبلغ عامه الثاني بعد.


خمس بيوت مسبقة الصنع حُملت خلسة في ظلام ليل، وأخذت مواقع لها
على قمة التلّ المشرف على سهل فسيح مترامي الأطراف، ثم راحت تتوالد كورم
خبيث، وتزحف فوق شرايين الأرض رويداً رويداً حتى وصلت بواباتها وحدائقها
والشوارع الموصلة بينها إلى أطراف بستان آل فارس.


يتجوّل "يوسي" في سيّارة مصفحة، يحمل "العوزي"، وتنسدل لحيته
السوداء القبيحة بفوضى على طرفي وجهه المربّع، ويعتمر رقعة سوداء مدوّرة
مثبّتة بمشابك تحتل بقعة قاحلة على مؤخرة رأسه،


يقضم في كل صباح قطعة أرض جديدة يضمّها إلى أملاكه، ويقضم أقوات أهل القرية وأحلامهم.،


هبّ أبو فارس يدافع بيديه المجرّدتين عن إرث أجداده، فقضمت روحه
رصاصات كثيرة انطلقت من بنادق جنود مدجّجين، مهمّتهم الرئيسة حماية
المستوطنين العابثين بأقدار القرية وناسها.


وحدها شجرة الجوز وقفت صلبة في وجه الغزاة، وصمدت، وباتت ترسم بشموخها وأنفتها حدوداً ساخنة جديدة تفصل بين عالميهما.


غرابان يسكنان فروعها الكثيفة، أنجبا في عشّهما الساكن فيها
أسراباً من الغربان، ما أن تشتد أجنحتها وتقوى حتى تطير إلى فضاءات بعيدة
ومجهولة.


أنثى الغراب تراقب عن كثب صغيرها، تتابع اشتداد عوده لحظة بلحظة.


في الأمس تعلّم كيف يلتقط قوتاً مختلفاً عمّا تبحث عنه الغربان، ويزدرده بشراهة.


ها هو ذا يستسيغ طعم الحنطة البريّة أيضاً.!


تحمل الجدّة إليه طعاماً مّما يأكلون، فيلتهمه بتلذذ.


اليوم نبتت على جناحيه ريشات جديدة، بقعة من البياض تحتل مساحة من
مقدمة صدره تزداد اتّساعاً، تقول أمّه وهي تصفِق بجناحيها فراغ الفضاء:


ـ إن القاق الصغير يختلف عن بني جنسه، لم يتعوّد بعد غزو الجيف.


لم يغلق فارس باب القفص يوماً، كان يتركه مفتوحاً للقاق، يدخل إليه ويخرج منه متى يشاء.


وعندما اشتدّ جناحاه قوّة سافر إلى عالم بعيد.


"يوسي" أقام جداراً حول قرية الخضر من جهاتها الثلاث، وأقام على الجهة الرابعة بوّابة لها أقفال، يغلقها متى يشاء، ويفتحها متى يشاء.


في أواخر الخريف الفائت بدأت البراميل المفخّخة بأجساد الرجال
تتدحرج، تقفز فوق الجدران، وتقتحم البوّابات وأقفالها، وترسم شبحاً للموت
ينبت في أيّ لحظة، وفي أي مكان.


إيلات مدينة حالمة، قالوا: البراميل البشرية لا تستطيع الوصول إلى ساحاتها..


يوسي يحمل مع قطيعه الوحشيّ زوجته وابنته، يستبدل بسيارته
المصفّحة جرّافة عملاقة، يتجاوز البوّابة المحروسة جيداً، ويصدم شجرة
الجوز بقوّة.


غراب يحمل على مقدمة صدره نجمة بيضاء يحلّق عالياً، يدفع رأسه إلى الأسفل، وتستلّ عيناه الجارحتان رعب ما يجري.


صوت صراخه المتحشرج يطفو على صوت هدير آلة معدنيّة تأكل بأسنانها
جذع الشجرة العجوز، وتمضي إلى شعاب البيت العتيق، تلتهمه، يتصدى لها فارس
فتطوي لحمه الطريّ بجنازيرها الفولاذية،


تهاوت شجرة الجوز، وانشقّت.


في اللحظة نفسها انتصبت من قلب خشبتها نبتة خضراء نديّة.


خبر غريب نقلته وسائل الإعلام العالمية:


"غربان تغزو بمناقيرها زجاج نوافذ البيوت والفنادق في إيلات"


سيقان "يوسي" وزوجته وابنته المحتمين في مدينة الأمان تحمل فزعهم
إلى الشارع العريض، يجرون بأقصى ما يستطيعون، ينشدون الوصول إلى البحر،
فلم يعد سواه طريقاً لأمانهم.!

البراميل البشريّة المفخّخة تتدحرج عليهم من كل مكان.


القاق يقود سرباً من الغربان تقمّصتها فجأة روح المواجهة.


تكاد تغطي بألوانها الرمادية القاتمة سماء إيلات.


يحملون جميعاً على صدورهم نجمات بيضاء، وصورة مطبوعة لم تتبدّل لأمّ معلوكة بين طواحين الجرّافات.


وينقضّون في وقت واحد على رؤوسٍ بدت لهم بقايا جيف مهترئة..